Jul 4, 2020

عن التحرش يتجادلون

عن التحرش يتساءلون

  تتصاعد في أيامنا هذه ترندات الجدال على التحرش والاغتصاب وبقية عائلة السيطرة الفاشية الدينية الذكورية التراتبية، مثل الضرب والاعتداء اللفظي والارهاب الفكري والقولي والتحرش الجسدي والتنمر الاجتماعي. يتزامن هذا مع احساس عميق بالتفاهة وعدم القدرة على تفهم - ناهيك عن التعامل مع  - هذه الامراض التي تمثل في مجملها عرض خطير جدا لمرض كبير هو الاستبداد واصوله والمعلمة واتقان الصنعة فيه.

  لم اظن أبدا البتة أن اظطر يوما للحديث عن هذا الملف المسكوت عنه ممن يتعرض له سواء البنات أو الأولاد وغني عن القول أنه شائع في هذه البلاد المنكوبة بسلاطينها منذ سبعين وسنة ونيف حتى في طفولتي واوائل صبايا. أينعم ليس جديدا ولا مستجدا بل عتيق مثل الزمن ذاته. 

  ما دفعني لكتابة هذه السطور هو شيوع الرد المنتشر على السنة البلهاء والدهماء والجهلة، ومن اعتمد في معارفه على ما يقولونه هم وشيوخ الغبرة المحتلين عقول هذه الجموع بإذن وتشجيع كامل ممن يملك مقاليد الأمور. ينجعص ابو مجانص ومن لف لفه وتربي مثله في بيوت لا يصدق خرابها إلا من يعلم بؤس القاطنين بها، وكيف ينقضي يومهم ما بين احتساب عذابهم وغلبهم عند الله، والشكوى للصديقات والاصدقاء، والغضب المكتوم الذي تمثله كمية الخونة المزواجين، او الخونة بالنت وغيره. يتمثل من ناحية أخرى في زهق النساء لدرجة الشعور بالغثيان وبالصداع حينما ترى شريك الحياة من بعيد لا حينما يقترب منها لا سمح الله. 

  الفت انظار القراء ان السطور السابقة تحدث في افضل البيوتات حيث لا ضرب ولا القاء من الشرفات ولا حوادث كسر انوف واذرع واقسام وما اليه. البيوت التي تتسم بالاحترام والأدب وبها حد أدنى من التعايش والرضا في الطبقة الوسطى لا في طبقات الريف والمتريفين والغوغاء والعشوائيات، تلك قصة اخرى.

يقول نموذج الخسة والغباء المتوارث بصفة المقدس، و المشترك بين الرجال والنساء من هذه العينة الشوهاء في الدفاع عن المتحرشين والاوساخ: إن حركات أو ملابس أو نظرات أو لفتات المرأة هي المسبب الأساسي لهذا الوباء المستشري لدرجة الغثيان في كل ربوع هذا البلد الحزين. دعوني هنا استطرد لأقول ان أي أرض نساءها حزينات مكلومات جاهلات مضللات ساريات مع الرايجة ومقهورات يبررن قهرهن ويقلن انهن راضيات هي أرض الحزن ذاته ووطنه و بيته الذي لا تبرحه اللعنة والشقاء أبدا. 

السعادة تصنعها وترعاها وتشرف عليها وتمنحها وتخلقها النساء وحدهن بلا شك. 

  كنت ولم أزل طفلة غاضبة جدا من كل موضوع الأنوثة هذا نتيجة لما وصلني وأنا في السابعة بوضوح مغث في طيات كل حديث وحوار، وقراءة قرآن وسماع احاديث، وتعليقات في الشارع و حوارات الرجال والنساء التي كنت ولازلت مستمعة ومراقبة جيدة لهم في كل وقت. 

  كانت كل كلمة اسمعها تخص اي نساء بداية من أم كلثوم وجيهان السادات ونهاية ببياعة الفجل اهانة او تقليل او استتفاه او تجاهل مبطن يلزق كل نقيصة وعيب وبله وسوء تصرف وقلة ثقة بالنساء بشكل |أو آخر. ضايقني هذا بجنون حزنا على أمي قبل نفسي، والتي كنت بطبيعة الحال أرى انها تستحق افضل من معظم الاشكال الضالة التي تتحدث اساسا. 

  الخلاصة وكي لا اطيل في تذكر تفاصيل ترهقني وتضايقني حتى بعد كل هذا الزمن وأول هذه التفاصيل وأنا أسير مع عمي الجميل ذو اللحية البيضاء المهيبة والجمال الأبوي الملحوظ في شوارع المنيل. كنت لا اتحدث العربية إلا لماما، ولكن النبرة وانحناءة الرأس والسخرية النابعة من الاعماق الراسخة في الكلمات وصلت لي كاملة.. كان رجل مسكين من رجال مصر- في منتصف السبعينات قبل هوجة الخليج - حين كان كل الشعب مية واحدة مسالمة وراضية وكتلة تكاد تكون صماء من المعارف المتماثلة للجميع نتيجة توحيد المناهج والاعلام كله. 
 كان هذا الابله الذي لا يتميز بأية ميزة واضحة يتبختر تيها وغرورا ويتحدث مع صاحب له ويقول له "الست" عملت وسوت. واسترعى انتباهي وحساسيتي المفرطة للاصوات والاشكال ولغة الجسد كم الاحتقار المبطن في كل حرف بل في كل نفس خرج من حنجرته الغبية للهواء. مجرد كلمة واحدة ولكنني شعرت بإهانة بالغة وقرت في اعماقي، وتوا قررت حينها انني لا اراني متشوقة لحياة طويلة يتم الحديث عني فيها بهذا الشكل المقيت، في حين ينال اي شخص ليس "ست" احترام لا لسبب الا انه كذلك. 

   المهم هو اني قررت بمنتهى الصرامة انني لن اعيش هذه الحياة المليئة بالعمل غير المشكور، والتعالي بالدين والمجتمع وكافة الظروف، والتعرض للسيطرة التامة من شخص -او اشخاص- لا يزيد بل غالبا ينقص عني كثيرا علما وخلقا ورحمة وفهما. وسواء كان افضل او اسوأ فلم يعجبني موقعي في الحياة ولازلت ارى انها تجربة سخيفة جدا ان يولد احدهم ليجد نفسه انثى في هذه الخرابة الدنيوية التي يغمرها الظلم والاستنطاع. 

  كانت خطواتي التالية عن قصد واصرار تام ان الفظ تماما كل شئ يمت للانوثة وللاناث بصلة، واعيش في ظل الحرية النسبية التي سوف يحميني فيها الاسترجال من كل ضغوط الشارع والبيت والحياة كلها. سارت خطتي كما اردت تماما واصبحت تقريبا ولدا في كل التفاصيل، تقريبا لحسن الحظ، لأن الآن وهنا من موقعي هذا وحقا لم اكن لأريد أبدا ان اكون ذكرا سوف يشبه غالبا حتى لو كان ذو اخلاق ولطيف وظريف كل هذه النماذج التي في معظمها تظلم وتعتدي وتتبجح وتشكو، الحمدلله على هذا.

  نأتي للغرض من هذه الاطالة السخيفة وهي مجرد مقدمة لما أريد اثباته. تحركت في الدنيا لا فارق بيني وبين اي صبي في سني، العب الكرة ولا امشط شعري واعاند في كل لحظة امي في كل تفصيلة ولكم ان تتخيلوا بشاعة وقع هذا عليها، وإن كان مريحا من جهة ما في ذات الوقت فيما يختص بقدرتي واستقلالي وعدم خوفهم علي بشكل ما. 

  يسوؤني هنا أن أنكد على نفسي بتذكر أن كل ذلك القرف. حيث أن كوني لا اتحرك ولا اتصرف ولا البس اي شئ مغري او انثوي او فيه رائحة الاهتمام ولا انظر ولا التفت اي لفتة قد تمثل لا سمح الله اي ملمح من ملامح القبول ناهيك عن الجمال او الدلال او اي حاجة من اي نوع، لم يمنع شيئا ولن يشفع في شئ لدى القاذورات التي تتحرك بمنتهي العنجهية بل والتدين الكاذب في كل ركن.   

  ربما يعتقد الابله صاحب النظرية اياها ان كونك تتصرف بلا اي شئ يدل على انك بنت اساسا قد يحميك. دعني اصحح لك ما تعتقد، العكس صحيح تماما، لم يهتم اي من المتحرشين العشرة او اكثر قليلا على مدى عمري - منذ الثامنة  وحتى الرابعة عشر حين بدأت اتصرف بعدائية مرعبة طوال الوقت - بأي شكل بأي من هذا ولا كان هذا ما يحركهم. ما حرك هؤلاء الاوساخ المنتشرين من اول قرية أمي في ميت غمر لحد بياع اللب في شارع البيرة مرورا بكم بياع كتب وكم عيل في اتوبيس وقصة او اثنتان اخريا، هو مجرد ان من امامهم تنتسب للجنس الملعون ويكفي وزيادة. شكلك وهدومك وتصرفاتك واي شئ آخر له تأثير صفري على النتيجة لأن المسألة مجرد فكرة والفكرة لا شكل لها. الفكرة لا شكل لها حتى لو لبست اسود ولم يظهر منها شئ ففكرة انك أنثى ولا يوجد ما يحميك و الغلط راكبك في كل حال هي التي تحرك الوساخة، لا اكثر. 

  الشاهد من القصة أن يفهم ولو أب واحد أو أخ واحد أو أم واحدة أن فتاتك في خطر طوال الوقت. لن يحميها في مجتمع اللاقانون الذي يعتدي فيه القائمون على القانون أنفسهم على الرجال قبل النساء اي شئ ولا لبسها ولا حمايتك ولا وجودك ولا مراقبتك ولا المدرسة ولا حبسها حتى.. افهموا ان حماية بناتكم الوحيدة هي القانون والنبذ الاجتماعي المطلق والاحتقار المطبق بلا كلمة واحدة تخص البنت او المرأة. 

  يؤسفني أن أبلغ الآباء والأمهات أن ابنتك واحيانا ابنك لم ينعم بحياة تخلو من التحرش ولكنه فقط لم يبلغك واحتفظ بمأساته لنفسه او نفسها. هم في كل مكان لأن هذا هرم يصب من أعلى لأسفل لا فكاك منه. في  النادي في المكتبة في البقالة في الترام في الاتوبيس في الشارع في مدخل العمارة في المدرسة والاتوبيس الخاص بها، في بيوت الاقارب في رحلات المدارس في كل مصيبة تاخدهم كلهم.

  العدل ليس كلمة في كتاب، العدل هو من يحمي الجميع، و خاصة من الوساخة التي تلبس لباس الدين وتتزيا بزيه وتقول ان الله - الذي يكره المعتدين كلهم- يرى من لبس ومن قلع ويترك المعتدين والمتجسسين والمغتابين وقاذفي الاعراض والمدافعين عن القوي الغني المجرم والذكوريين الاوباش الذي يعتقدون الله مثل شيوخهم يقبل القبيح والدنئ والكذب والنفاق والازدواجية.
  
لم أقص أي شئ عن عدد الاولاد والذكور الذين يتعرضون للتحرش وهم اطفال لأن كل هذا الحديث الذي اوردته ذكرته فقط كي اوضح ان التحرش مشكلة القذر المتحرش لا الضحية ابدا ابدا.

  التحرش نتيجة طبيعية للتراتبية المعتمدة على ان القوي يأكل الضعيف و الدين يصفق ويبرر.. ويؤسفني ان انهي هذه المقالة بأن أؤكد للجميع اننا كلنا في خطر، كل مواطن هنا معرض للتحرش وهتك العرض ولكن الاكثر تعرضا هم الاضعف والاوهن والافقر وطبعا هم النساء والاطفال والفقراء رجال ونساء وهكذا دواليك. لا أمان لواحد طالما هناك خطر على واحد. عدل الله.